اللغة العربيّة إرث باقٍ، ولباس لا يبلى

"لغتك لباسك الذي ستظهر به للآخر قديمًا أو جديدًا، أنيقًا ملفتًا أو رثًّا باليًا، بل هي وجهك الذي سيعرفك الآخر من خلاله".

جاسم المشرّف.

 

لا تنفكّ اللغة عن الإنسان، ولا يمكن لها أن تكون بمعزل عنه، هي لصيقة به غير منفكّة، إنّ اللغة شيء معقّد التّركيب، وهذا التّركيب المعقّد لم يكن محضّ مصادفة أو عن طريق مفاجئ، بل اللغة تحتاج إلى وقت طويل إلى أن تتشكّل وتصبح على ما هو عليه اليوم. تمرّ اللغة بمراحل عدّة كثيرة تجعلها على ذات الشّكل الذي عليه في لحظة وصولها لما هي.

والحديث عن اللغات يطول جدًّا، وطريق وعر شائك يحتاج إلى شخص متخصّص، على دراية بهذا المسلك -ولا أدّعي نفسي ذلك- كما أنّه يحتاج إلى وقت وصبر وطول بال، والأهمّ من كلّ شيء أن يكون الدّافع من منطلق الحبّ إلى هذه اللغة منصبًّا في ذات اللغة. وبطبيعة الحال لن أتكلّم عن لغات العالم أقطب، بل سأتكلّم عن اللغة العربيّة، اللغة التي جئت منها وإليها أنتمي وإليها مآلي العلمي، وسأحاول في حديث هذا أن يكون حديثي من منظور غير دينيٍّ، وذلك لعدّة أسباب، منها: أنّنا مسلِّمون أنّ الدِّين هو الوعاء الحاوي  لهذه اللغة، وإنّ الله -سبحانه وتعالى- قد تكفّل بحفظها واستمراريّتها، بل هي "كلام الله الذي خاطب به عباده" وغير ذلك من الأمور التي يعرفها كلّ مسلم ويحفظها، ، كما أنّ حديثي سيكون مقتضبًا حول ظاهرتين أو أكثر من ظواهر اللغة العربيّة إن شاء الله.

 

اللغة العربيّة لغة جميلة جدًّا، تختلف عن باقي اللغات، وإنّها ليست كأيّ لغة، فهي لغة تصلح لكلّ مكان وزمان، لغة علميّة وعمليّة، شاعرة موسيقيّة، مفكّرة عبقريّة، لغة توليديّة حيّة مستمرّة، لغة معاصرة لكلّ عصر، وذلك يعود إلى أسباب كثيرة جليلة متعدّدة، منها: أنّ اللغة لغة تركيبيّة معقّدة، فهي تحتوي على ثمانية وعشرين حرفًا، مشكّلة لنا ما يزيد عن اثني عشر مليون كلمة، وهذه الكلمات ليست مهملة، بل تحتوي على مئات الآلاف من الكلمات المستخدمة والمتداولة بين المتكلّمين بهذه اللغة، والجميل في هذه اللغة إنّها على ما فيها من تعقيد في أبجديّتها، إلا أنّها لغة مرنة، تقبل التّوليد  في كلماتها، من هذه البابة النّحت في اللغة، فيمكننا أن ننحت كلمتين في كلمة واحدة، بل يمكننا أن ننحت جملة بأكملها في كلمة واحدة، وينقسم النّحت إلى عدّة أقسام، منها: النّحت الفعليّ، والوصفيّ، والاسميّ، والنّسبيّ، والحرفيّ، والتّخفيفيّ. ومن الجميل في هذه اللغة وجود ظاهرة الجناس الصّوتي، والجناس اصطلاحًا هو اتّفاق كلمتين في لفظة واحدة واختلافهما في المعنى، وهذا يحيل لنا عدّة أمور منها: إنّ اللغة العربية تحتوي على مجموعة من الكلمات التي تحتوي على معان كثيرة متعدّدة، وإنّ هذه اللغة كلماتها كلمات تخدم الجانب الموسيقي الذي من شأنه أن يجذب أسماع المتلقّين، وينقسم الجناس الصّوتي أو التّجانس أو التّجنيس إلى قسمين اثنين هما: الجناس التّامّ والجناس النّاقص. أمّا الجناس التّام هو اتّفاق الكلمتين اتفاقًا كليّا من حيث الحروف، وأنواعها، وعددها، وهيأتها، وترتيبها. والنّاقص، أن تفقد إحدى الكلمتين شيئًا من هذه الحيثيّة. ويوجد نوع ثالث من هذا التّجانس، وهو الجناس المركّب، وهو يكون بين عدّة كلمات، مثل قول الشّاعر:

"مضى شبابيَ في حلمٍ و(تجريبِ)
وما تزالُ صروفُ الدّهرِ (تجري بي)".

وكقول بعضهم:

"وشادنٍ قلتُ له: هل لك (في المنادمةْ)
فقال: كم من عاشقٍ سفكت (في المنى دمه)".

وقد تفنّن الشّعراء أيّما تفنّن في هذا الأمر، حتى بلغ الأمر عند الشّاعر البستي عليّ بن محمّد بن الحسين أبي الفتح أن يجعل جلّ شعره من هذا المنطلق، قال الشّاعر:

"أنكرتِ من أدمعي نثري (سواكبها)
سلي دموعيَ هل أبكي (سواكِ بها)".

فهذا ضرب في أنّ هذه اللغة شاعريّة، وإنّ هذه الظّاهرة تخدم هذه اللغة، وتوسع من مفرداتها. ومن مرونة اللغة العربيّة إنّها لغة ممتدّة يمكن أن يلتحق بها ممّن ليس منها، تأمّل معي قول ابن جنّي في تعريفه لعلم النّحو تعريفًا مغايرًا للتّعريف المعتاد المعروف، حيث يقول: إنّ النّحو "هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرّفه من إعراب وغيره: كالتّثنية، والجمع، [..] والإضافة والنّسب والتّركيب، وغير ذلك، ليلحق من ليس من أهل اللغة العربيّة بأهلها في الفصاحة فينطق بها وإن لم يكن منهم، وإن شذّ بعضهم عنها ردّ به إليها" وهذا يجعل تعريف النّحو أشمل وأوسع من التّعريف التّقليدي المعروف، والمرتبط الحركة الأخيرة من أواخر الكلمات.

 

وآخرًا إنّ هذه اللغة هي لغة ثمينة، لغة جوهريّة دعونا نحافظ عليها من خلال التّكلّم بها بالأخذ بها في حياتنا العلميّة والعمليّة والاجتماعيّة أيضًا، فإرث اللغة يتسع جميع النّاطقين بها وغير النّاطقين بها، فلنحسن استخدامها.

 

حسين بن أبي سهيل

8 أبريل 2024.